سورة هود - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: {الر} اسم للسورة وهو مبتدأ. وقوله: {كِتَابٌ} خبره، وقوله: {أُحْكِمَتْ ءاياته ثم فُصلتْ} صفة للكتاب.
قال الزجاج: لا يجوز أن يقال: {الر} مبتدأ، وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته ثُمَّ فُصّلَتْ} خبر، لأن {الر} ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده؛ وهذا الاعتراض فاسد، لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه، ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال، ثم إن الزجاج اختار قولاً آخر وهو أن يكون التقدير: الر هذا كتاب أحكمت آياته، وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين:
الأول: أن على هذا التقدير يقع قوله: {الر} كلاماً باطلاً لا فائدة فيه، والثاني: أنك إذا قلت هذا كتاب، فقوله: هذا يكون إشارة إلى أقرب المذكورات، وذلك هو قوله: {الر} فيصير حينئذ {الر} مخبراً عنه بأنه كتاب أحكمت آياته، فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول، فثبت أن الصواب ما ذكرناه.
المسألة الثانية: في قوله: {أحكمت آياته} وجوه:
الأول: {أحكمت آياته} نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف.
الثاني: أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء. فقوله: {أحكمت آياته} أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها.
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكماً، لأنه حصل فيه آيات منسوخة، إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في الكل.
الثالث: قال صاحب الكشاف {أُحْكِمَتْ} يجوز أن يكون نقلاً بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً، أي جعلت حكيمة، كقوله: {آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] الرابع: جعلت آياته محكمة في أمور:
أحدها: أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وهذه المعاني لا تقبل النسخ، فهي في غاية الإحكام.
وثانيها: أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة، والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام.
وثالثها: أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة، وهذا أيضاً مشعر بالقوة والإحكام.
ورابعها: أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية.
أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها، وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس، ولا نجد كتاباً في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب، فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية، فكان كتاباً محكماً غير قابل للنقض والهدم.
وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات} [آل عمران: 7].
المسألة الثالثة: في قوله: {فُصّلَتْ} وجوه:
أحدها: أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية، وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص.
والثاني: أنها جعلت فصولاً سورة سورة، وآية آية.
الثالث: {فُصّلَتْ} بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة، ونظيره قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: 133] والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة.
الرابع: فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة.
الخامس: جعلت فصولاً حلالاً وحراماً، وأمثالاً وترغيباً، وترهيباً ومواعظ، وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل، قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها، ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل.
المسألة الرابعة: معنى {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ فُصّلَتْ} ليس للتراخي في الوقت، لكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وكما تقول: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: قرئ {أُحْكِمَتْ ءاياته ثم فُصلتْ} أي أحكمتها أنا ثم فصلتها، وعن عكرمة والضحاك {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي فرقت بين الحق والباطل.
المسألة السادسة: احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه: الأول: قال المحكم: هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال، ولا يجوز أن يقال: كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً، لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً، ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث.
الثاني: أن قوله: {ثُمَّ فُصّلَتْ} يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق، ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل، وتكوين مكون، وذلك أيضاً يدل على المطلوب.
الثالث: قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} والمراد من عنده، والقديم لا يجوز أن يقال: إنه حصل من عند قديم آخر، لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة، وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
المسألة السابعة: قال صاحب الكشاف قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} يحتمل وجوهاً: الأول: أنا ذكرنا أن قوله: {كِتَابٌ} خبر و{أُحْكِمَتْ} صفة لهذا الخبر، وقوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة ثانية والتقدير: الر كتاب من لدن حكيم خبير.
والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير: الر من لدن حكيم خبير.
والثالث: أن يكون ذلك صفة لقوله: (أحكمت. وفصلت) أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير، وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.


{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} وجوهاً: الأول: أن يكون مفعولاً له والتقدير: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد، فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب، فقد خاب وخسر.
الثاني: أن تكون (أن) مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى، لأن قوله: {وَأَنِ استغفروا} معطوف على قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} فيجب أن يكون معناه: أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي، فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه.
والثالث: أن يكون التقدير: الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم، إنني لكم منه نذير وبشير، والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه:
الأول: أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله، وإذا قلنا: الاستثناء من النفي إثبات، كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى، والأمر بعبادة الله تعالى، وذلك هو الحق، لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله منكرة، والإعراض عن عبادة الله منكر.
واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة، لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولاً. ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله: {الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة.
ثم قال: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وفيه مباحث:
البحث الأول: أن الضمير في قوله: {مِنْهُ} عائد إلى الحكيم الخبير، والمعنى: إنني لكم نذير وبشير من جهته.
البحث الثاني: أن قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مشتمل على المنع عن عبادة غير الله، وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها.
واعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لهذين الأمرين، وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي، والبشارة على فعل ما ينبغي.
المرتبة الثانية: من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ}.
والمرتبة الثالثة: قوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه:
الوجه الأول: أن معنى قوله: {وَأَنِ استغفروا} اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة، فقال: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن المذنب معرض عن طريق الحق، والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الوجه الثاني: في فائدة هذا الترتيب أن المراد: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف.
الوجه الثالث: وأن استغفروا من الشرك والمعاصي، ثم توبوا من الأعمال الباطلة.
الوجه الرابع: الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة، أما المنافع الدنيوية: فهي المراد من قوله: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقال أيضاً: «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل».
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية. ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟
الجواب: من وجوه:
الأول: المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا.
الثاني: أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارة بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] الثالث: وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر، كان الابتهاج والسرور أتم، لأنه أمن من تغير مطلوبه، وأمن من زوال محبوبه، فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله، كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله، فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} [النحل: 97].
السؤال الثاني: هل يدل قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} على أن للعبد أجلين، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير؟
والجواب: لا. ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين، فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط.
السؤال الثالث: لم سمى منافع الدنيا بالمتاع؟
الجواب: لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية، ثم لما بين تعالى ذلك قال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} والمراد منه السعادات الأخروية، وفيها لطائف وفوائد.
الفائدة الأولى: أن قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات، فهذا هو المراد من قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}.
الفائدة الثانية: أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية، فلهذا السبب قال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}.
الفائدة الثالثة: أنه تعالى قال في منافع الدنيا: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} وقال في سعادات الآخرة {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده. وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده، فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} والأمر كذلك، لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى، {مَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الأخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72] والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية. ثم بين أنه لابد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على شَيء قَدِيرٌ}.
واعلم أن قوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} فيه دقيقة، وهي: أن هذا اللفظ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره، فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية، إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء، وأما في دار الآخرة، فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ}.
ثم قال: {وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه.
أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه، وقوله: {وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك، ومنه المثل المشهور: ملكت فاسجح.
يقول مصنف هذا الكتاب: قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم.


{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}
اعلم أنه تعالى لما قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني عن عبادته وطاعته {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال: {أَلاَ إِنَّهُمْ} يعني الكفار من قوم محمد صلى الله عليه وسلم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين: الأول: أنهم يثنون صدورهم يقال: ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته، وفي الآية وجهان:
الوجه الأول: روي أن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد، فكيف يعلم بنا؟ وعلى هذا التقدير: كان قوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} كناية عن النفاق، فكأنه قيل: يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى، ثم نبه بقوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم.
الوجه الثاني: روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، والتقدير كأنه قيل: إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم، لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن، وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن. وقوله: {ألا} للتنبيه، فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة {ألا} للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم، وهو حين يستغشون ثيابهم، كأنه قيل: ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله، ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8